الجمعة، ٤ مارس ٢٠١١

الثائر الأحمر لباكثير



الثائر الأحمر رواية تاريخية فكرية بامتياز كنت قبل أن أقرأها أعرف لعلي أحمد باكثير طول باعه وتفرده في المسرحيات مع حسه الاسلامي التاريخي الرائع مع القليل من الروايات التاريخية كـ (سلامة القس) والرواية الشهيرة (وااسلاماه)...أما وان الثائر الأحمر قد أضيفت لهما فهو ولاشك أديب روائي اهتم بالرواية التاريخية بامتياز...وسر عدم شهرته في ذلك هو اتجاهه الاسلامي الذي يقول فيه عن نفسه ""إنني أسعى في مسرحياتي إلى تحقيق هدفين: الهدف الأول سياسي والثاني إنساني، أما الهدف الأول فمحوره الدعوة إلى الوحدة العربية، مثل مسرحية إخناتون ونفرتيتي، ويتدرج منها كل كفاح سياسي في القضايا العربية.
أما الهدف الإنساني فهو يتعلق بالتعبير عن روح الإسلام ومثله العليا ونظرته إلى الكون والحياة. وسبيلي في تحقيق هذا الهدف أن أعالج الأساطير المختلفة العربية والأجنبية، حيث أسكب فيها مضمونًا إنسانيًَا يعبر عن هذه النظرة الإسلامية المتكاملة الصالحة لكل عصر وكل مكان مثلما فعلت في مأساة أوديب وفاوست الحديثة والفرعون الموعود، وأحيانًا أتخذ من الأحداث التاريخية وسيلةً لتحقيق هذا الهدف مثلما فعلت في سر الحاكم بأمر الله ودار ابن لقمان".
ولست أنا الذي يدعي أن سر عدم شهرته هو اتجاهه الاسلامي بل لقد قرأته في مقدمة لرواية ل (عبد الحميد جودة السحار) منذ زمن طويل ولا أذكر حتي اسمها.
أما الثائر الأحمر
فقد قسمها الي أربعة أسفار...وكأنها قصة من القصص التوراتية...فكلمة سفر هنا...تشي بأنها مشتركا انسانيا عاما وتاريخا بشريا نستخلص منه العبرة
وكعادته التي دأب عليها...قدم باكثير كل سفر بآية قرانية تعبر عن مكنون هذا السفر

 فالسفر الأول الذي بدأه بقول الله تعالي (واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).. ما ان تشرع في قرائته حتي تشعر أن الأحداث تدور في قرية من قري مصر قبل ثورة 1952.... فهذا الفلاح الفقير الذي أكره (هو أو أباه) علي بيع أرضه...ثم يعمل فيها كأجير لحساب الاقطاعي الشاب الذي ورث الأرض عن أبيه وصورته التقليدية في فساده وغيه واستبداده وتعاليه.
ولكن الحقيقة غير ذلك...فتاريخ الأحداث يرجع لما قبل ذلك بكثير...يرجع الي الدولة العباسية قبل ثورة القرامطة. ومكان الأحداث واضح من أول سطر في الرواية ( في ضاحية من ضواحي قرية الدور احدي القري المنتثرة حول الكوفة مما يلي البطائح) ولكنه التاريخ الذي يعيد نفسه...والانسان هو ذاك الانسان منذ أنزل الله أباه علي ظهر البسيطة وحتي قيام الساعة.... وهذا السفر يعرض بروح حية لمسالب الرأسمالية الاقطاعية ويصف الظلم الواقع علي غالب البشر الذين يعانون شظف العيش لصالح قلة قليلة متمتعة بتخمة في الثروة.
ثم السفر الثاني مبدوءا بقوله تعالي
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)
والمقصود في القصة هو (عبدان).. فقيه المذهب...يقوم بدور ابن عم (حمدان قرمط)...مؤسس مذهب القرامطة..... والذي كان في السفر الأول مجرد فلاح تقي ناقم علي الظلم والاستبداد.
وفي هذا السفر تبدأ حبكة الأحداث في التقدمة لقيام ثورة القرامطة في اطار اجتماعي عام.
فهذا عبدان...تعرف علي رجل يدعي جعفر بن أحمد الكرماني.. من الأهواز... يبدأ الرجل في عرض مذهبه علي (عبدان).
وهنا يبدع باكثير في تحليل نفسية هؤلاء القرامطة...الشيوعيين القدامي... فعبدان لم يقتنع بمذهب (العدل الشامل) لقوة حجة الكرماني..وانما لرغبته في أخته (شهر) التي أحلها له الكرماني بهذا المذهب الذي يجعل كل شيء مشاعا بين أتباعه من طعام وشراب وعرض!
وفي هذا السفر يعرض باكثير كذلك لحال الدولة العباسية والظلم السائد علي العمال فيها...مع قيام عالم صالح بواجب كلمة الحق عند السلطان.. ويعرض لدور اليهود الأساسي في تأليب الفتن...عن طريق المال


والسفر الثالث
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)
في هذا السفر..تظهر الحركتان الفكريتان الأخريتان...الشيوعية متمثلة في القرامطة....بقيادة حمدان قرمط...والعدالة الاسلامية والشخص الممثل لها هو الشيخ (أبو البقاء البغدادي) المقرب من الخليفة (المعتضد).
أما حمدان قرمط فقد نجح في البداية في اقامة دولة له...وعاصمتها مدينة بناها سماها (دار الهجرة) وسميت في الرواية (ميهماباذ). هاجر اليها في البداية العمال والصناع المقهورون من ظلم الأغنياء في بغداد وماحولها...ليشتموا هواء العدل الشامل الذي تقوم عليه المملكة...
وفي سبيل هذا العدل الشامل آمنوا بالمذهب الجديد وأصبحت الأعراض مشاعا والاباحية قانونا...
(وقد أظهر الفلاحون والصناع وغيرهم ارتياحاً لهذا النظام، فأخلصوا واجتهدوا في أعمالهم في بداية الأمر، إذ كان بين هؤلاء كثير من الفالحين الذين ذاقوا البؤس من ظلم ملاك الأرض وجشعهم، وكثير من العمال والصناع الذين عانوا الأمرين من ظلم أصحاب العمل . وكان كثير منهم ممن اعتنق مذهب الإمام المعصوم على يد الشيخ الأهوازي وحمدان من بعده، وتحمسوا لمبادئ العدل الشامل، وعللوا نفوسهم بزوال عهد الظلم والتفاوت لمبادئ العدل الشامل، وعللوا نفوسهم بزوال عهد الظلم والتفاوت بين الناس في الرزق والثروة، ومجيء عهد جديد يتساوى الناس فيه، فلا غني ولا فقير، ولا قوي ولا ضعيف، إذ لا يؤذن لأحد مهما يكن قدره أن يملك شيئاً من الأرض أو المال.)
ثم لما بدأت حقيقة تطبيق الشيوعية تبدو لهم:
(غير أن كثيراً منهم ما لبثوا بعد أن ذهبت عن نفوسهم جدة هذا النظام وروعته الأولى أن نظروا فإذا الناس ليسوا سواسية في ظل هذا النظام الجديد، وإذا التفاوت في العيش بينهم باق كما كان، فقد رأوا أنه إن أعطي لهم ما يسد جوعهم وجوع عيالهم من الطعام، فمن طعام يختلف عن طعام غيرهم ممن هم أرقى طبقة وأعظم جاهاً أو أحب إلى أصحاب الجاه . وأدركوا أن أحدهم إن أعطى كفاية بطنه فإنه لا يعطي كفاء عمله وجهده، فهذه الغلال والثمار والمصنوعات التي ينتجونها بعرق جبينهم وكد أيديهم لا يعطون منها إلا القليل من أدنى أنواعها، ويحمل الجزء الأكبر منها إلى مخازن الدولة لمصلحة الجميع كما يزعم أولئك أولو الأمر فيهم - حيث تتمتع به الطبقات التي فوقهم . فأخذ منه كل على حسب جاهه ونفوذه . فقد انقلب الأمر من امتلاك الأرض والمال، فامتلاك السلطان والنفوذ بهما،
في ذلك النظام الذي شهدوه من قبل، وذاقوا منه المرارة والهوان . إلى أسلوب جديد يقوم على امتلاك السلطان والنفوذ بادئ بدء ثم يأتي من طريق هذين امتلاك ما يخولانه لصاحبهما من بركات الأرض والمال.)
اذن لا فرق بين الرأسمالية الاقطاعية...والشيوعية المستبدة
بل الشيوعية المستبدة التي تدعي العدل الشامل تفقدهم أكبر ميزة...كانوا يتصبرون بها علي ظلم الاقطاعيين...ألا وهي الايمان بالله
(وكان لهذا الأمر أثر بالغ في تذكيرهم بما سلبوا من حرية العقيدة وحرية العبادة، فزاد حنقهم على العهد الجديد، واشتد حنينهم إلى ذلك العهد القديم، حيث كانو ا يجدون من طمأنينة الإيمان بالله ما يهون عليهم كل ما يلقون من جور، ويعانون من جهد ومتربة.)

أما ماكان من أمر العدالة الاسلامية مع الشيخ أبي البقاء...فقد نصح الخليفة المعتضد...بعدم محاربة هؤلاء القرامطة...موضحا أن سبب انتشارهم ونفوذهم...هو هذا الظلم الواقع علي الصناع والعمال...فاذا أقمنا شرع الله في أراضي الخلافة...فان هذا المذهب الهدام سينهار من تلقاء نفسه اذ لن يجد له اتباع من الساخطين حين ذاك.
كل هذا يرويه باكثير...في حنكة بالغة..وتحليل نفسي ماتع..
·       لشيخ يريد تطبيق الاسلام علي أرض الواقع..فيسجن أولا في عهد خليفة ظالم...
·       ثم في عهد خليفة آخر عادل..يخرج من السجن ويقربه الخليفة ويعلمه انه لن يقطع أمرا بدونه...
·       ووزراء وأغنياء مستفيدون من الوضع الظالم فيقاومون أي دعوة للاصلاح ويحاربون أي صوت مخلص لله...
يفهم الشيخ أبو البقاء..حقيقة الاصلاح
بأنها قبل أن تكون قتالا للمذهب الهدام...لابد أن تكون تغييرا للواقع الذي يتخذه هذا المذهب ذريعة وحجة...تغيير الواقع باقامة عدل الله وشرعه بين عباده.

(فإنه لما أعلن المعتضد سياسته الجدية على منهج أبي البقاء ثار أغنياء بغداد وكبار ملاكها، ومعهم الوزراء المستوزرون، وانضم إليها بعض الفقهاء بدعوى أن في ذلك تجاوزاً للحكم الشرعي في الزكاة. ولكن المعتضد قاومهم جميعاً، وبدأ التنفيذ بالقوة وقبض على زعماء الحركة المضادة . وبعض تجار اليهود الذين يقومون سراً بتأييدهم، وكان هؤلاء يقولون له : (حارب القرامطة بدلاً من محاربتنا)
فيقول لهم قولة واحدة (لولا هذا الظلم الذي تس تثمرونه لما ظهرت فتنة القرامطة ولا  غيرهم )،
 وقد بلغ من اشتداد هذه الحركة وخطرها أن دبروا لخلع المعتضد، وتولية الخلافة لأحد الأمراء من ولد المعتمد. لولا أن المعتضد كشف سر هذا الائتمار فأحبطه، وعاقب المشتركين فيه . وفيهم بعض قواده الأتراك وبعض الوزراء.

ثم لحظة الصدام الفكري بي العدالة الاسلامية والشيوعية المستبدة في السفر الرابع المبدوء بالمبدأ الاسلامي في التفاضل بين الناس:
(والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم سواء أفبنعمة الله يجحدون)
(ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فه و ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون. وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم)

وصارت أنباؤه (أي أنباء الشيخ أبي البقاء وحركة العدالة الاسلامية) تأتي إليهم مفصلة تنطق بفضله على الناس، وفرحهم به،ولا سيما الطبقات الدنيا من الفلاحين والعمال والصناع، ثار ثائر زعماء القرامطة، وأوجسوا خيفة من تأثيرها في أهل بلدهم أن تفتنهم عن مذهبهم، وتميل بهم عن الولاء لملكة العدل الشامل . وكان الشعور بخيبة الأمل والتذمر من سوء الحال قد شاعا في نفوس الطبقات العاملة عندهم، وما يمسكها عن الانفجار إلا خوف هؤلاء من بطش حكامهم الذين لا يرحمون.

وتختم القصة كلها خاتمة روائية فهذا (حمدان) مؤسس دولة القرامطة...كان يريد أن يشيع العدل بين الناس...ولا يقر في نفسه بالامام أو غيره من مذاهب القرامطة...ويقول في صراحة لابن عمه ..عبدان..فقيه الدعوة..
(إن مذهبي هو إجراء العدل، ولا أرب لي فيما وراء ذلك من إلحاد في الدين.)
ولذا كان لا يريد حرب الخليفة ولا مناهضة حركة أبي البقاء بل كان يقول عنها:
(إنّا أصحاب مذهب العدل الشامل ليسرنا أن يطبق نظام أبي البقاء في البلاد ما كان فيه إنصاف للمظلومين وحد من طغيان المال، فمرحباً بمعاونة الخليفة لنا في ذلك.)

ثم لما رأي منه ذلك أصحاب المصالح الشخصية وراء هذه الدعوة... ثاروا عليه وحاربوه...وأثناء ذلك تجيء لحظة الصراع النفسي بين المذهبين في نفس حمدان

(كل هذا دعا حمدان إلى التفكير في أمره، وفي مصير هذه المملكة التي يحكمها، فجعل يحاور نفسه ويناقشها في موقفه من الخليفة العباسي، وموقفه من القداحي وأتباعه، ويستعرض الأحوال التي دفعته إلى الخروج على حكم السلطان وتأسيس مملكة مهيما باذ على أساس العدل الشامل، ثم ما انتهت إليه الأمور بعد ذلك من قيام نظام أبي البقاء العادل في بلاد الخليفة فسعد أهلها من حيث شقي أهل مملكته وتذمروا من نظامه - وانكشاف أمر هؤلا ء القداحيين الدجالين، وفساد مذهبهم، وسوء نيتهم، واختلافهم معه، وتحريضهم رجاله عليه . فها هم أولاء اليوم يحاربونه بسلاح هذا المذهب الفاسد الذي لم تطمئن إليه نفسه قط وإنما جارى عبدان فيه حرصاً عل النجاح في تحقيق العدل الذي يصبو إليه.
فانتهى من هذا التفكير إلى الاقتناع بأنه كان قد أراد بالناس الخير فانقلب إلى شر، وأن عليه اليوم أن يحول بكل سبيل دون وقوع أهل مملكته في براثن هؤلاء القداحيين وأتباعهم، وأن ينقذهم من شر الافتتان بسعرة مذهبهم أو شر التعرض لغارتهم وعدوانهم)

فتكون النصرة الفكرية للاسلام ولعدالته الاجتماعية
كتب باكثير هذه الرواية في الستينيات..حيث المنتهي في قوة بزوغ المذهب الشيوعي في العالم.....فكتبها ليقول لهم ان دعوتكم قديمة... وقد جابه الاسلام مثلها....وانتصر عليها فكريا وعمليا...فلقد سبقكم القرامطة الي شيوعيتكم تلك..التي ما أعطت للانسان العدل الذي كانت تعده به...وفوق ذلك سلبته شرفه ودينه وطمأنينة نفسه
وان شئنا القول فان القرامطة أنفسهم...انما كانوا كما قال الله في أمثالهم (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل).... فان المزدكية الفارسية... هي أيضا دعوة شيوعية اباحية قبل البعثة المحمدية..شاعت في أرض فارس...فنخرت في عظام واحدة من أعظم امبراطوريتين في التاريخ القديم....وكذلك فعلت الشيوعية باستبدادها فنخرت في واحدة من قطبي التاريخ الحديث....والتاريخ يسجل انها ماقدمت للعالم عدالة ولا مساواة...وانها مانجحت في بلد مسلم فكريا..وانما بالحديد والنار....ثم أسقطها الله ببغيها وفساد دعوتها كما أسقط الفرس من قبل.
وتبقي الدعوة المادية الثانية (الرأسمالية) لنجاحها في تقنين وتطوير نفسها باستمرار....ولكن ذلك الي حين.. وخير شاهد علي ذلك مايشاهده العالم من أزمات مالية طاحنة تفقر الدول فضلا عن الأشخاص....وحين يقول علماء الاقتصاد الغربيين ان حل الأزمة في الاقتصاد الاسلامي ( وهو كلام موثق ولم أقله جزافا)....فاننا ندرك ان النصرة عاجلا أو آجلا للعدالة الالهية لخير كل البشر ..كما تم في الرواية.


ليست هناك تعليقات: