الاثنين، ٣٠ نوفمبر ٢٠٠٩

أوهام الحقيقة



أوهام الحقيقة
كان يوما غريبا عليه بكل المقاييس ثقيلا ثقيلا الساعة فيه كالدهر
أحس بتغير كامل في نفسه وفاض ذلك علي الدنيا من حوله فحدجها بنظرة جديدة فبدت له جديدة كذلك.
حاول أن يستعيد نفسه أن يستجمع قواه فلم يستطع, حاول مرارا أن يفتش داخله عن الأمل فلم يجد إلا تروسا من اليأس تصده عن كل بارقة أمل يحاول الوصول إليها
عجب من نفسه ومن حالته تلك التي تعرض له وقال لنفسه في مرارة: حقا تنتهي حياة الإنسان إذا انتهي هدفه فيها أو فقده
انه يعرف نفسه جيدا
انه قصر الأمل الذي يؤوي إليه الجميع إذا عضهم اليأس بأنيابه
انه بحر الراحة الهاديء الذي يصطاف فيه الناس إذا لسعتهم حرارة القنوط والمقت يوما ما
انه نسمة المعذبين من السخط علي الحياة
فماله اليوم يستوحش من نفسه أو من هذا الذي بداخله ويتوهم هو أنه نفسه
فمال قصره تهدم علي ما فيه فلم يعد يؤويه هو
ومال بحره هاج وماج وثار عليه وأخذه في دوامة من الشتات
حتى هذه النسمة الرقيقة ما إن مضي يجد في الملاذ إليها إلا وصدمته ريح غضبه الصرصرير وألقت به في صحراء قاحلة من الاستسلام ماتت فيها كل أشجار الهدي التي كان يستظل بها في حياته ونضب فيها معين الابتسامة الذي كان يرتوي منه إذا أضناه صدي الانكسار
لقد كاد يقتل نفسه كمدا فتساءل في سخرية "هل قتل النفس كمدا يعد انتحارا مثواه النار؟!"
وكأن القدر كان أرأف به من نفسه فحباه سنة من النوم تريحه من النصال التي تمزق شرايين فكره فأسبل لها عيناه وأخذه النوم حينا.
رأي في منامه كأنه قد قتل نفسه خنقا بكلتا يديه ثم جلس علي جثته يبكي عليها بتشنج وحرقة, ثم أفاق فجأة:ماذا يفعل بالجسد الملقي أمامه ؟لابد أن جسده يستحق التكريم.
فرأي نفسه وهو يغسله عاجبا من تلك المهارة وهو ما دخل علي ميت في حياته، و ما إن فرغ حتى لف نفسه في كفن كتان أبيض لا يدري من أين جاء به. ثم حمل نفسه علي محفة وأقسم ألا يختم بقاءه علي تلك الأرض الملعونة إلا بجنازة مهيبة فرفع نعشه ومضي في شوارع القاهرة وحده.
رأي أناسا يعرفهم فنادي عليهم
يا شوربجي.. يا أعز أصدقاء الدنيا
يا.. أبي.. نعم أبي.. أمي أفلا تسمعونني.. أنا مت أفلا ترون جثتي؟؟؟
وأكتشف أن كل الناس يسيرون عكس اتجاهه وأن أعينهم مغماة ما هذا الذي لا يفهمه كيف لا يصطدمون إذا؟؟!!
وفي قمة ذهوله أحس بثقل النعش علي كتفه وأحس بتحركه فاستبد به الخوف وأحس بوحدة قاتلة رغم  كل من حوله "وماذا يفعلون لي إذا أصابني مكروه إذا كانوا لا يشعرون بي؟"
فألقي بجثته علي الأرض وجري كالهائم ولكنه ما إن قطع بضعة أمتار حتى تسمرت قدماه وأتاه صوت من خلفه:
- إلي أين يا سعيد؟
فحول بصره إلي مصدر الصوت كالمجنون وأحس بغثيان وقال في خوف شديد:
-         ومن أنت وما شأنك بي؟ وما حال الناس؟
-         وماذا تري؟
-         لا تسألني فاني لا أفهم شيئا
هل..هل مت حقا؟
-         وإذا مت فكيف تكلمني الآن؟
-         هل أنا في..في.. الجنة ؟
-         إذن فلماذا يبدو هذا الخوف عليك إذا كنت في دار النعيم؟
-         فهي النار و بئس المصير نعم أنا في النار فأنا معذب أكاد أموت عذابا.. لماذا؟ أنا لم أفعل شيئا استحق عليه النار؟
-         ولكن انظر إلي جسدك.. لم يصبه مكروه؟
-         ليست الجنة ولا النار وأنا مت ولم أمت أفوق ذلك عذاب؟ هل مازلت في الدنيا ؟؟
هل هذه هي القاهرة؟ قلبي يحدثني أنها هي , رغم غربتها أستأنس بها.
ومن أنت؟ إنني أعرفك؟ ولكنب لم أرك من قبل.. من أنت؟
-         أهدأ يا سعيد لم أعهدك هكذا من قبل
-         أحس كأنه يهذي :
تعهدني؟ ومن أنت حتى تعهدني؟
-         أنا أنت يا سعيد.
-         أنا حياتك التي تخلصت منها
-         صرخ فيه :


يا الهي ...
ما هذا الحمق؟
-         الحمق ما أنت فيه
   مالك ؟ وما حدث لك؟ إن ربك ساخطا عليك وما كان كذلك من قبل
أحس سعيد بوخز ألمه وبحزن قلبه فقال باكيا:
-         ربي ؟ وأين ربي حينما ضاع مجهود عمري وأين ربي لينقذ ما بنيته في هذه الحياة ؟ ألم تقل أنك حياتي ؟؟ فاني حقا اعتذر إليك .. لقد أضعتك من يدي ولم أتنعم بك .. وضحيت بك من أجل مجد الرب.. من أجل أن أصلح ما أفسد الآخرون
من أجل أن أقف بين يدي الرب وأنا سعيد حقا . سعيد بما حققت من هدف في الدنيا ولكن الرب.. كان قاسيا علي تركني أضيع حياتي حتى إذا ما كدت أحقق هدفي أضاع علي ساخرا مني وتركني في يأسي القاتل
-         لا تكفر بربك يا سعيد
-         لقد كفر هو بي
-         لا تعبث بحكمة وجودك ووجودي فيك ولا تضع مجهودك في لحظة مقت هباء منثورا
-         قال بحرارة: لقد أضاعها هو من قبل عابثا بي
-         فقال الشيخ في لهجة المعاتب: منذ متي تسخط علي الدنيا . ما كان المؤمن ليفعل هذا وهو مصدر الأمن في الحياة وخليفة الله في الأرض
-         وجدت نفسي وحيدا
-         لقد صرت وحيدا بيديك يا سعيد .
فالوحيد من ترك هدفه
-         قال نادما : لقد تركته رغما عني
وأنا أراني أشيد ويهدم الآخرون
-         ما كان لك أن تتركه لأي سبب ففيه سر وجودي بين جنبيك
-         تهالك قائلا:
أنا متعب ولا أدري أين الراحة
-         قد كنت تجدها فابحث عنها حيث عهدتها
-         ما أظنه ليقبلني
-         قال الشيخ وصوته يخفت وصورته تتلاشي:
ما كان ليرفضك وهو يحبك
-         إلي أين ؟ أين أنت ذاهب ؟ إني في حاجة إليك. في حاجة إلي نصيحتك
-         قد كنت في حاجة إلي أما الآن فقد عرفت طريقك!!








ليست هناك تعليقات: