في الحقيقة السؤال الأول ليس سؤالا واحدا... فهو سؤال مركب من اربعة اسئلة... وان كانت فيما بينهم علاقة...لكنهم غير متماثلين اذا دققنا في الألفاظ
الاسئلة الأربعة هي:
لماذا القران باللغة العربية فقط؟
لماذا لم ينزل بكل اللغات المعروفة؟
لماذا نزل للعرب فقط؟
ولماذا تجاهل بقية سكان العالم؟... وكيف يؤمنون بكتاب تجاهلهم؟
أما لماذا نزل القران باللغة العربية فقط؟
اذا قلنا لماذا نزل القران باللغة العربية ولم ينزل بلغة أخري؟ فهو سؤال ساقط منطقيا...لأنه سؤال غير متناه...فاذا كان القران بالآرامية مثلا كالأنجيل الأصلي...فلماذا نزل بالأرامية؟..وأي لغة سينزل بها
القران دون سواها ستكون عرضة لنفس السؤال.
ومع ذلك... فانني كمسلم اؤمن أن القران نزل بالعربية لأنه سبحانه (أعلم حيث يجعل رسالته)... ولأن اللغة العربية هي أتم اللغات وأكثرها قدرة علي حفظ الوحي والتعبير عن معانيه ولست انا وحدي من يري ذلك فالكلام عن تفرد اللغة العربية في عدد أصول كلماتها وبلاغتها واختلافها...يتحدث به كل متخصص فمثلا يقول المفكر الأمريكي البلجيكي الأصل (جورج سارتون(
"إن لغة القرآن على اعتبار أنها اللغة التي اختارها الله جل وعلا للوحي كانت، بهذا التحديد، كاملة... وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد،.. وجعل منها وسيلة دولية للتعبير عن أسمى مقتضيات الحياة"
وذلك لا يتنافي عقليا مع أن القران رسالة عالمية "كما سيتحدث القران عن نفسه في الجزئية الثالثة"... لأنه مع عالمية الرسالة التي يقول فيها النصراني اللبناني (نصري سلهب) في كتابه (لقاء المسيحية
والاسلام(
".. إن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب. فإذا بهذا الأمي يهدي إلى الإنسانية أبلغ أثر مكتوب حلمت به الإنسانية منذ كانت الإنسانية، ذاك كان القرآن الكريم، الكتاب الذي أنزله الله على رسوله هدى للمتقين.."(
مع عالمية الرسالة الا انه لابد من قوم يحملونها الي العالم....ولابد أن يكون هؤلاء القوم يتكلمون نفس اللغة... ولابد أن تكون كذلك هي لغة النبي... ثم بعد ايمانهم بها يحملونها علي عاتقهم الي العالم أجمع.... وهذا لا يمثل مشكلة ذهنية
لأنه ببساطة واقعا ملموسا... فان العرب الآن لايشكلون أكثر من خمس المسلمين علي ظهر الأرض....والباقي لم يجد مشكلة لا في دينه ولا في اسلامه... وكذلك لم يجد مشكلة في أن تصله الرسالة ويقتنع بها . لماذا؟ لأن العبرة في مبادئ الرسالة واتفاقها مع نداء الفطرة وتلبيته لعقل الانسان ونفسه وليس في كيف وصلته... هل بلغته الأصلية أم بترجمة معانيها طالما وصلته صحيحة.
والا فما من حل الا تساؤلك الثاني بأن تنزل الرسالة بكل اللغات المعروفة
ولكن ذلك يؤدي بنا الي مشكلة أخري.... لأنه يقتضي تجدد الرسالة مع تجدد اللغات... وكذلك اندثارها مع اندثارها...فاذا كان تقرير اليونسكو لهذا العام أن هناك (ألف لغة بشرية) معرضة للانقراض...فهذا
معناه ضياع ألف رسالة ربانية الي البشر....
بل ان اللغة نفسها تتغير وتتبدل... فلنفترض معا ان القران نزل في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم بثلاث لغات بدل واحدة.... العربية واللاتينية واليونانية القديمة
هذا كان يقتضي التالي:
· ثلاثة رسل وليس رسولا واحدا عالميا
· أن تكون الرسالة رسالة محلية قومية (وليست عالمية) ... وهو فرضك الذي بدأت منه انه بما ان القران بالعربية فهو للعرب فقط "وهو فرض غير صحيح بالطبع"
· أن تكون الرسالتين اللاتينية واليونانية القديمة الان من الاثار التاريخية المحفوظة في المتاحف والتي لايفهمها سوي الاكاديميين..... وهو ما لايتصور في حق الله
· أن تكون الامم الان مازالت اليوم في حاجة الي رسل جدد... كل رسول بلغة قومه... وهو ما لم يظهر ... وهذا يدل علي شيء من اثنين اما ان الله قد نسي العالم (وهو ما لايتصور في حقه) واما ان يكون
· هذا الافتراض غير صحيح.
اذن ما المخرج من كل ذلك؟
المخرج هو التصور الاسلامي للنبوة.... فان الله قد سبق في علمه المحيط... ما ستتطور اليه البشرية بأن يصبح العالم قرية صغيرة بدلا من انفصال الامم والقبائل عن بعضها كأنها تعيش وحدها في الأرض
وبالتالي لابد من الرقي بالأسلوب الذي توجه به رسالته - عز وجل - الي البشر... بأن تخاطبهم جميعا وتكون لهم الرسالة كلهم...بغير تمييز علي اساس قبلي أو عرقي... فاختار الله نبيه محمد صلي الله عليه وسلم
للقيام بتلك المهمة... واختار العرب ليكونوا حملة الوحي والرسالة ومشاعل الهدي الي العالمين... وقد قام النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه بالرسالة علي أكمل وجه وأوصلوها علي أتم صورة
حتي صار الاسلام ملأ الشرق والغرب ودخلت الامم في دين الله أفواجا... لما رات من سمو الاسلام وعالميته وفطرته..لم يحجبهم كما تقول حاجب اللغة عن الاسلام..بل حملوه عن العرب...
واجتهدوا هم في تبليغه
ومازال الأمر علي ذلك حتي الان....ولتقرأ احصائيات دخول الاسلام في كل انحاء العالم.
وهذا هو الطبيعي في رسالة خاتمة...أن تكون رسالة عالمية لكل البشر...لأنه لا رسالة بعدها....
يقول المستشرق الأمريكي (واشنجتون ايرفنج)
كانت التوراة في يوم ما هي مرشد الإنسان وأساس سلوكه. حتى إذا ظهر المسيح [عليه السلام] اتبع المسيحيون تعاليم الإنجيل، ثم حلَّ القرآن مكانهما، فقد كان القرآن أكثر شمولاً وتفصيلاً من الكتابين السابقين، كما صحح القرآن ما قد أدخل على هذين الكتابين من تغيير وتبديل.
لماذا نزل القران للعرب فقط؟ ولماذا تجاهل القران بقية سكان العالم؟
رأينا من الاجابات السابقة.. أنه ليس هناك رابط بين أن يكون القران بالعربية وبين أن يكون للعرب فقط
اذن السؤال الآن... من قال ذلك؟ القران يقول عن نفسه انه رسالة عالمية ولو حاولت ذكر كل الايات التي تنص علي ذلك لما وسعنا المقام
ولكن نكتفي بقليل منها
. ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ).
٢. ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ ـ ٢٨ ).
٣. ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( النساء / ٧٩ ).
٤. ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٧ ).
٥. ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان ـ ١ ).
٦. ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ... ) ( الأنعام ـ ١٩ ).
٧. ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ ٩ ).
ويقول المفكر مارسيل بوازار M. Poizar في كتابه (انسانية الاسلام)
".. إن القرآن لم يقدّر قط لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة
".. إن الأدوات التي يوفرها التنزيل القرآني قادرة ولا ريب على بناء مجتمع حديث.."
وأخيرا اختم بكلمة الباحثة الايطالية لورا فيشيا فاغليري L. Veccia Vaglieri في كتابها (دفاع عن الاسلام)
"إن معجزة الإسلام العظمى هي القرآن الذي تنقل إلينا الرواية الراسخة غير المنقطعة، من خلاله، أنباء تتصف بيقين مطلق. إنه كتاب لا سبيل إلى محاكاته. إن كلاً من تعبيراته شامل جامع، ومع ذلك فهو ذو حجم مناسب، ليس بالطويل أكثر مما ينبغي، وليس بالقصير أكثر مما ينبغي.
أما أسلوبه فأصيل فريد. وليس ثمة أيما نمط لهذا الأسلوب في الأدب العربي تحدر إلينا من العصور التي سبقته. والأثر الذي يحدثه في النفس البشرية إنما يتم من غير أيما عوض عرضي أو إضافي من خلال سموه السليقي. إن آياته كلها على مستوى واحد من البلاغة، حتى عندما تعالج موضوعات لابد أن تؤثر في نَفَسها وجرسها كموضوع الوصايا والنواهي وما إليها.
إنه يكرر قصص الأنبياء [عليهم السلام] وأوصاف بدء العالم ونهايته، وصفات الله وتفسيرها، ولكن يكررها على نحو مثير إلى درجة لا تضعف من أثرها. وهو ينتقل من موضوع إلى موضوع من غير أن يفقد قوته. إننا نقع هنا على العمق والعذوبة معًا – وهما صفتان لا تجتمعان عادة – حيث تجد كل صورة بلاغية تطبيقًا كاملاً فكيف يمكن أن يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محمد ]صلى الله عليه وسلم]، وهو العربي الأميّ الذي لم ينظم طوال حياته غير بيتين أو ثلاثة أبيات لا ينمّ أي منها عن أدنى موهبة شعرية؟"(